ما يحن إليه لوركا وما يحن له لاجئ فلسطيني - في القلب قرية لم أراها.

 


إني لأود القول كما قال لوركا عن غرناطة في الأندلس التي صارت اليوم إسبانيا المتفرقة في الإنتماءات والقوميات، ولكن قولي سيختلف بعض الشيء عما قاله لوركا.

قال لوركا: "كان لذكرياتي الأولى عبيرُ الأرض، لقد فَعل الريف بحياتي فِعل السِّحر، إن للأرض وللهوامِّ وللحيوانات وللفلاحين أفكارًا لا تصل إلى الجميع، إنني أسيطر عليها الآن بنفس الروح التي كنتُ أسيطر عليها بها في طفولتي … لقد كنتُ طفلًا مُحبًّا للاستطلاع، وكنتُ أتابع آنَذاك عمليةَ حرثِ أرض والدي في أعماق الريف، ولقد أحببتُ مشاهدة النِّصال الحديدية الهائلة تفتح جِراحًا في الأرض؛ جِراحًا تنبجس منها الجذورُ بدلًا من الدماء."

ولكن قولي لا يشبه ما قاله لوركا، عن الريف الذي كان يقطن فيه سنوات من حياته وله ذكريات فيها، فإن في قلبي قرية في أرياف فلسطين المفقودة تدعى " المسمية " أفرغت من سكانها عام 1948 للميلاد، والآن أنا من الجيل الثالث على النكبة، أي أن أبي لم يشاهد هذه القرية أيضاً لكن جدي فعل، كان مفتاح بيته القديم دوماً في جيبه ظناً منه أنه سيعود بعد يوم أو يومين شهر أو شهرين سنة أو سنتين، ولكن لم يكن الحال كما تصور جدي.

في بعض الأحيان يبكيني الشوق إلى ما كان يملكه جدي من أرض ومن ماشية وزرع وأصدقاء وجيران لم أعرفهم ولا أدري كيف كان الهواء يمشي في الصدور آن ذاك، حتى أني لم أتمكن من أن أنتفح بقبلةٍ على يد جدي الذي أتى من تلك القرية مهجراً، لم أشهد حياة جدي؛ فقد مات قبل أن آتي إلى هذه الدنيا وأنا معلق بين أرضٍ وسماء ليست لي.

شرحوا لي الكثير عنها، لكني لا أقدر على تخيلها، مهما عصفتُ بذهني أن أراها لم أستطع، دوماً ما يجوب في رأسي الكثير من التساؤلات حولها، أهي سهلٌ منبسط،؟ أم جبلٌ مرتفع؟، أم كلاهما؟، أم هي في وادي؟، أم كل مما سبق؟، وما لونها الغالب على طبيعتها؟، هل يجري من بين أشجارها الغزال؟، ويقف على شبابيك بيوتها طائر الحسون؟، هل بها طواحين قمح عملاقة؟، لم يحدثوني عن كل هذا وأكثر، كانوا يشرحون كيف تم السطو عليهم من الإحتلال فقط.

ولا يمكنني أن أقول كما قال لوركا أني كنت طفلاً يحب الإستطلاع كي أتابع عملية حرث أرض جدي ووالدي في أعماق الريف، ولكن يمكنني القول أني كنتُّ طفلاً يحب الإستطلاع كي أتابع آخر التطورات في الأراضي المحتلة ومتى يمكنني أن أعود إلى ذلك الطين الذي رسم أجساد أجدادي؟!.

الآن لسنا إلا مجرد بعض الآمال والأحلام التي تأتي وتذهب بين الحين والآخر، فقد تغيرت مفردات كثيرة إلى اليوم، إختلفت المفاهيم وإختلطت الأفكار والرغبات، حيث كانت البداية في خيمة قد دقتها وكالة الإغاثة للمُهجرين من أراضيهم، والآن الخيمة أصبحت بيتاً من أحجار، والجدران القديمة تصبح صلبة أكثر، لأن الناس بدأوا بالتكيف مع الواقع، فعمروا شيئاً يدوم لفترة أطول، والعودة لا تكاد تذكر إلا في المناسبات، وبعض من قصص التاريخ عند العجزة الذين يشرحون تفاصيل الزمن الذي كانوا فيه، يطرحون على هذا الجيل الجديد النوستالجيا الخاصة بهم، ولكن هذا الجيل لا يكاد يتخيل باب جنتهم التي يزعمون.

إن في قلبي قرية ليست مشهودة من قِبلي ولا من غيري، يربطني شعور كالسحر بها، لا أعرف كيف أكون بخير إذا لم أذهب إليها يوماً ما.

فإن العمر يجري ولا ينتظر أحد، الوقت ليس من ضمن عواطفنا، الوقت مفردة منفردة لا تنظر خلفها على من سقط ومات وهزم وفاز وخسر وتعب وبكى وندم وعاد وذهب، وخان ووفى، ليس من شأنها، إنما نحن لدينا شأن أن ندرك ما الذي نريده، لدينا الطرق ولدينا أن نفعل، حتى لو كنا في ضعف يمكننا أن نحفر خندقاً إلى الخلاص في نهايته.

هل للوركا أن يفهم أن مأساتي كَبُّرت عنه؟

لو رأى خيباتي لإشتاق إلى أرضٍ لم يراها قط.


Next Post Previous Post
No Comment
Add Comment
comment url