ميلان كونيدرا والحياة الواحدة وأشياء أخرى.
أن تصنع من عمق الخيال واقعاً ملموساً في الأسطر المكدسة فوق بعضها البعض
وتجوب الآفاق وأنت لى كرسي الكتابة، ولا تمتلك سوى ورقة وقلم، وتخلق بهما
عالماً جديداً وتعدد الأزقة وكثير التفاصيل كما لو أنك قد عشت أو ستعيش هذا
الخيال الذي تكتب عنه، هذا الخيال ذاته وذات الحلم الذي أخذ البشر إلى أزمنة
متقدمة، فقط من خيال فكرة أو من ظل رجل وإمرأة.
الخيال الذي يولد رغبة في الأشياء والخيال المجتمع مع الشغف، وحتى من واقع
حقيقي يُنسج خيالاً وإحتمالات لم تحدث أو نتمنى لو حدثت.
ما بعد الحرب العالمية الأولى وتحديداً في العام 1929م قد أتى على هذا
الكوكب الكاتب والفيلسوف الفرنسي من أصول تشيكية الحائز على جائزة إندبندنت
لأدب الخيال الأجنبي عام 1991م، والمطرود لأكثر من مرة من الحزب الشيوعي
التشكي وسحبت منه الجنسية التشيكوسلوفاكية عام 1979م، والحاصل على الجنسية
الفرنسية عام 1981م ، والذي ولد بين أصابع أبيه عالم الوسيقى ورئيس جامعة
جانكيك للآداب "لودفيك كونديرا".
والذي درس علم السينما والموسيقى والآداب ثم تخرج في العام 1952م، وعمل
أستاذاً مساعداً ومحاضراً في كلية السينما في أكادمية "براك للفنون
التمثيلية".
إنه الكاتب والفيلسوف الفرنسي ميلان كونديرا، الذي أطل على الأدب بروايات
وكتب وحكايات نسجها وأبدع في تحويلها إلى قلوبٍ نابضة، وأول مؤلفاته كان كتاب
عن فن الرواية أصدره عام 1986م، من ثم تبعتها رواية "الخلود" عام 1988م، ومن
أهم رواياته (غراميات مضحكة 1963م – المزحة 1965م – الضحك والنسيان 1978م –
الخلود 1988م وترجمه للعربية "روز مخلوف ونشرته دار ورد عام 1999م – ورواية
البطء وجاك وسيده – كائن لا تحتمل خفته 1984م ترجمتها للعربية ماري طوق
ونشرها المركز الثقافي العربي في بيروت بالدار البيضاء عام 2012م).
والرواية الأحب إلى قلبي هي رواية الحياة في مكان آخر، التي يبدأ الجزء
الأول فيها بعنوان "الشاعر يولد" حيث يصور لنا ميلان هذا الشاعر وكأنه سيولد
بمجزةٍ ما بين الصخور البارزة في متنزه براغ، وكما لو أنها تتنبأ بقدوم شاعرٍ
من أبٍ مهندس وأم هي إبنة تاجرٍ ثري، ثم يبين لنا ميلان بأن الأب يريد التخلص
من هذا الشاعر المنتظر، علماً بأن الشخصيات لا تعلم بأنه شاعر ولكن ميلان
الكاتب يعلم، وعلى هذا السياق يقدم لنا ميلان هذه الرواية الفائقة في الإبداع
الأدبي.
ميلان كونديرا الفرنسي ذو الأصول التشيكية، الذي أعطى جل فكره وفلسفته في
الروايات والكتب، إن رواية الحياة في مكان آخر مما لا شك فيه تجعل القارئ في
نهم وهرع إلى المزيد من السطور القوية الشيقة، ورحلة مولد الشاعر منذ كان
نطفةً في رحم أمه وبخطيئة والديه ووهم الحب الذي بينهما.
دوماً ما نرى في كلمات ميلان أموراً مرتبطة بالحياة والحيوات الأخرى وحتى في
بعض مسميات وعناوين كتبه مثل رواية الخلود والحياة في مكان آخر ، وأيضاً بعض
أقواله المشهورة له تحمل أيضاً ذات المفردات والفكرة، مثل قوله: "لا يمكن
للإنسان أبداً أن يدرك ماذا عليه أن يفعل، لأنه لا يملك إلا حياة واحدة، لا
يسعه مقارنتها بحيوات سابقة ولا إصلاحها في حيوات لاحقة".
وأيضاً قوله: " الحياة الإنسانية لا تحدث إلا مرة واحدة، ولن يكون في وسعنا
أبداً أن نتحقق أي قرار هو الجيد وأي قرار هو السيء، لأننا في كل الحالات لا
يمكننا إلا أن نقرر مرة واحدة؛ لأنه لم تعطى لنا حياة ثانية أو ثالثة أو
رابعة حتى نستطيع أن نقارن بين القرارات المختلفة".
وإن هذا يثير في عقلي تساؤل منطقي يمكن أن نضعه في تساؤل واستحواب، بناءً
على ما كان يقوله ميلان كونديرا من تصريحات أو من أدبيات قد أنتجها، التساؤل
هو لماذا ميلان كان كثيراً ما يهتم بالحياة الواحدة والحيوات الأخرى؟
ربما هو منزع إنساني، حيث يخاطب به معظم العقول التي دوماً تفكر في مسألة
الحياة الواحدة والخلود، ويكشف هذا عن رغبة الإنسان وهؤلاء الذين أثاروا مثل
هذا التساؤل مثل ميلان أن يعيشوا أكثر من حياة واحدة ربما.
وإن ميلان كونديرا يفعل هذا في رواياته وشخصياته التي يرويها لنا، عبر
تساؤلات وأطروحات وأفكار وأفعال إنسانية وتفاعلات بين الشخصيات، حيث أن
الخيال هو محرك كونديرا الأساسي وتعريف الخيال البسيط هو خلق حياة ليست
موجودة وإنما تلامس الواقع أو تداعبه.
قد ترك ميلان ثروة أدبية كبيرة وكتب في فن الرواية والأدب، وربما كان لحياته
وإهتماماته الإشتراكية أثراً على طبيعته ككاتب وفيلسوف، وترى هذا بين الأسطر
التي يسلط عليها الضوء في كتاباته من قيم وأخلاق وأصول وأطباع ورغبات ونزوات
وحتى تصريحاته السياسية والثقافية.
ويمكن القول أن ميلان كونديرا كان إمتداداً للفن السريالي وفن العصر الحديث وإمتداد لأدب بودلير وريلكه والشعر الغنائي والسلطة وإلى الأدب الواقعي الإشتراكي، وإلى إنحدار الأفكار والأخلاق والمبادئ في الحقيقة الستالينية، هذا الحقيقة لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، حيث تقسم العالم إلى قسمين، إما الرديء المحبب للأغلب، والجيد المهمش تهميشاً كلياً.