فقه كاتب - على الورق

 


ما وددتُّ أن أكون في الأدب من شيء، كنتُّ أريد أن أتأمل ما حولي دون أن أبوح به على الورق، أو أن أرسم فلسفةً خاصة لما أراه أو أسمعه أو أقرأه، كنت أرغب بأن تمضي الأشياء مرور الكرام أو البخلاء فحسب، حتى لا أزعج نفسي بهذه الكلمات التي تلاحقني أينما ذهبت وفي أي مجلسٍ جلست، كنت أرغب دوماً في ألا أعبر للناس عن صفتي كاتباً، فإمتهنتُّ مهنةً أخرى تغطي على جريمة الكتابة؛ نعم إنها جريمة بكل المقاييس الاجتماعية، فإن أردتُّ أن أكتب شيئاً قد لمع في ذهني، علي أن أهرب إلى ذلك المكان الذي لا يحمل طابعاً اجتماعياً وعائلي.

تهرب من الجميع إلى الورق، تتجرد من هذه المسؤوليات التي عليك وتضع مسؤولية النص الذي تكتبه عوضاً عنها، وإذا خرجت بعدها للناس وسألوا أين كنت طوال هذا الوقت؟، فماذا سأخبرهم؟، هل أقول لهم كنت أكتب؟، ما هذه الحجة الواهية التي سأقنعهم بها عن غيابي الطويل كي يعفوا ويصفحوا عني؟، لذلك إن الكتابة سرٌ عميق لا يعلمه أحد.

ليس بمقدرتي أن أهرب من كل تلك الأفكار والهواجس والخيبات والفوضى والانكسارات والمعاني والمشاهد دون أن أضعها على الورق، هذا أمرٌ يجري في أوردتي جريان دماء الأبطال الذين ماتوا رافعين الراية في السماء، ربما لا توجد فائدة من بضع كلماتٍ قد تم رصها بجانب بعضها البعض في وقت كتابتها، ولكن إنها تمثل وجدان الكثير من الناس بعد أن يُكشف عنها الستار، وترسم طريقاً لثقافتنا التي سيعرفنا بها الآخرون حينما يذكروننا، ربما الكاتب لا يمثل إلا صوته فقط ولكن في أحيان كثير فهو يمثل أصوات كثيرة من الجماهير المكبوتة، فإني أرى هذه الفكرة المذهلة عندما أباشر في كتابة شيء وتعينني على ذلك، وإن كنتُّ أخبئ هذه الفوضى داخلي أو في الأدراج والأرفُف.

كيف لا أكتب وأنا من هذه الجغرافيا الصعبة التي تتوسط العالم بأزماتها وآلامها المدمى. إن العالم يأخذ قدوته من مفكريهم، ونحن نأخذها من السياسيين وأهل التفاهة والفتن، وها هو الوقت يمضي ولا يزال حجم الكاتب يتقلص حتى يختفي تحت الركام مع نؤلفاته وأفكاره التي لطالما كان يتمنى لو بيده الإمكانية لأن يطبقها بعد أن خطها على ورق أحلامه المتعبة بيده، حقاً ما وددتُّ أن أكون هذا الرجل الذي تُنهيه كلمة في جوف كتاب وسط ليلٍ لُجي، ويأخذ بقلمه يشكو فحسب ولا يستطيع بعدها التصريح بكل هذا الصراخ الذي أفزع راحة الورق.

إن لكل شيء عنوان، حتى شاهدة القبر تحمل عنواناً عريضاً للميت، وإن عناوين الكاتب في بلادنا كشاهدة القبر، " يرقد هنا فلان "، ويرقد في تابوت هذا الكتاب أمة كاملة عجزت على فهم الدور وراحت إلى فناء!

إنها علاقة قوية وجديرة بالذكر وعميقة عنق التاريخ، ومؤلمة ألم هذا التاريخ، والكاتب لا يحكي قصة فقط، وإنما يخبرنا من أين نبدأ بعد أن سقطنا، يخبرنا عبر سطورٍ من الحكمة وهبها الله له حتى يُبلغ الرسلة لمن تاه وضل الطريق.

ويبقي اللغة حاضرة في كل وقت قوية وبليغة، ويعلم بها تلامذة في الأدب والشعر والنثر، وجوهر هذه الفنون وقواعدها، ومن هنا يأتي وعي الشعوب عن الخطأ والصواب، ليس لأنه يعرف مئات الأبيات للمتنبي، ولكن لأن معرفته للأبيات شكلت له وعياً رزيناً يميز به بين الأشياء،.

إنها مهمة صعبة للغاية وفيها الكثير من المهاجمة والتهكم والسخرية من حالك وأفكارك، مع ذلك لا يبدلوا في رغبتك شيئاً، ربما أتحدث عن نفسي أو عن طريقتي أو عن تأثري بأساتذة كبار في هذا العالم الأدبي، وهناك شعار دوماً ما أعتمد عليه في علاقتي بهذه الحياة الفانية، وهو " المسلم عليه أن يمتلك دهشة الفيلسوف"، إن المسلم هو أكثر أحقية بهذا المصطلح الفلسفي؛ لأنه يكون دوماً في حالة دهشة وتعظيم لخالق هذا الكون، والدهشة تجعله يبحث، البحث يجعله يفهم، والفهم يجعله يفعل، وهذا مبدأي في الدنيا، ومن لا يمتلك الدهشة فهو كائن ميت.

ورغم هذا مازلت أقول أني لا أتمنى أن أكون هكذا، لأن الكاتب ربما يموت فيه شيء إن مات هذا الشيء في أحد شخصياته الروائية، وإني أقصد التأثر بالمواقف المؤلفة من قبل الكاتب، فإنه يعيش حيوات متعددة في جسدٍ واحد.

 ويعيش الكاتب على فرضيات كثيرة وأمور واقعية أيضاً، فربما تختلط الفرضية مع الواقع والعكس، لأن ما يتمناه الكاتب هو أن تصبح الفرضية الجيدة التي قام بطرحها واقعاً، وإني أدعو دوماً ألا يكون الكاتب في كتاباته ساخطاً على الحياة ومعطياتها، فهذا الباب صعب ومخيف جداً.

 

والكاتب الجيد هو الذي يضع عقله وقلبه على ميزان دقيق ويحاول ألا ترجح كفة على الأخرى.


Next Post Previous Post
No Comment
Add Comment
comment url