غرناطة - بكائيات غرناطة

 


البكاء لا يُعيد ما فُقد. 

تشرذمت القطع عن أم القطع، وبان العيب بين الأخشاب العطبة، وهرتق كل مهرتقٍ على بابها أنه حاميها، وعاد الناس يمشون حفاة الأقدام إلى كهوفٍ مظلمة، إيبان السقوط هل رغد العيش أسكت حد السيوف وصليلها؟، أم أن غرناطة هي دُريدة؟.

مازلت أقرأ القصائد عنها كما لو أنها دوماً تصبح عروساً من جديد، مازلت أرى أن القرن الخامس عشر مازال يتكرر مع كل قطعةٍ نفيسة يرغب بها اللصوص والطامعين، تلك قرونٌ قد خلت، ومازال التذكير فيها لا يخلى، وإن رأينا ما في غرناطة كما لو أنها تقول لنا ها أنا ذا وبئساً للمتخاذلين، لا نراها باكية لكنها ترانا باكين ومتحسرين خاسرين، ألا إن قصر الحمراء بات يستهوي السياح من كل جنسٍ وطائفة، وما أنا إلا سائح ولستُّ واليها، وحَكماً فيها، وكلما قرأت قصة سقوطها ظننت أني أقرأ أسطورة، فأعجب عن انشغال حكامها بإمرأة قد نزعت من تحتهم بساط الحكم باسم العشق، لقد أفسدنا جلوسنا في أوساط الغرب، حيث أن الرغبات تعلو فوق الأولويات.

اليوم أصبحتي من أحد المعالم الأثرية على مستوى العالم، العالم الذي لسنا فيه رقماً، نعتل بعلتنا، ونستلقي على ظهورنا كالسلحفاة العاجزة على قلب نفسها.

وبعد أن حط العالم كل ثقل بؤسه على صدورنا، لم نجد في اليد سوى أن نرثي فقيدتنا، فأتى أبو البقاء الرندي وقال القصيدة الشهيرة:

لـكل شـيءٍ إذا مـا تـم نقصانُ     فـلا يُـغرُّ بـطيب العيش إنسانُ

هـي الأمـورُ كـما شاهدتها دُولٌ     مَـن سَـرَّهُ زَمـنٌ ساءَتهُ أزمانُ

وهـذه الـدار لا تُـبقي على أحد     ولا يـدوم عـلى حـالٍ لها شان

يُـمزق الـدهر حـتمًا كل سابغةٍ     إذا نـبت مـشْرفيّاتٌ وخُـرصانُ

ويـنتضي كـلّ سيف للفناء ولوْ     كـان ابنَ ذي يزَن والغمدَ غُمدان

                       أيـن الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ     وأيـن مـنهم أكـاليلٌ وتيجانُ ؟

وأيـن مـا شـاده شـدَّادُ في إرمٍ     وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ؟

                      وأيـن مـا حازه قارون من ذهب       وأيـن عـادٌ وشـدادٌ وقحطانُ ؟

أتـى عـلى الـكُل أمر لا مَرد له     حـتى قَـضَوا فكأن القوم ما كانوا


إن تمام الأمور ليس من الممكن حدوثه، فلا بد من نقص فيه، ولا يغتر الإنسان برغد وطيب العيش، وإنه ومن المحال أن يفقد طيب ورغد عيشه في أي لحظة، وتلك الأمور دول بين الناس، فيومٌ لك ويوم عليك " تلك الأيام نداولها بين الناس ".

هذه القصيدة تخبرنا أن العالم لا يدوم على حالٍ واحد، فكم من قرونٍ قد خلت من قبل الآن نسمعها سيرةً مضت، ليس الأمر بالسهل نعم، ولكن إن في التاريخ لعبرة وعِظة لمن أراد أن يتعظ.

يخبرنا التاريخ أن كل قومٍ تركوا أهدافهم التي نهضوا بأنفسهم بناءً عليها، ستنهار إذما لم يبقوا على ذات الطريق ولا يحيدوا عنه طرفة عين، وإن هذا لمن الصعب حدوثه، لأن الإنسان ذو خطيئة ودوماً ما تحكمه شهوته، ومن القليل الذين يصمدون على ما هو حق ويجزرون ما هو باطل، ونعلم أن في الكثرة غلبة، وإن كان القليل منهم مؤمنين بالمبدأ الحق، وإنما هو صبرٌ وإحتساب.

 

غرناطة من الفتح إلى السقوط.


وصل الفتح الإسلامي لمدينة غرناطة عام 1711م وكانت عبارة عن منطقة تابعة لإدارة مدينة البيرة، وهذا كان خلال المرحلة الأولى من الحكم الإسلامي لشبه الجزيرة الأيبيرية.

بسبب الفتن والنزاعات تعرضت البيرة للدمار والخراب، وإنتقل أهلها إلى مدينة غرناطة الصغيرة، فإتسع عمرانها وأصبحت عاصة للمنطقة، وحكمها الزيريون ووسعوا ببنائها وعززوا دفاعاتها في عهد زاوي بن زيري عام 1090م وزادوا في مساحتها ودفاعاتها.

وأكثر ما يؤلم هو أن مسألة الحكم في ذلك الوقت كات مطمعاً للكثيرين، حيث أنهم يرغبون فقط بالحكم والسلطة وليس بالحفاظ على إستقرار البلاد وحمايتها والبقاء على كلمةٍ واحدة فيما بينهم.

فقد جاء بعد دولة الموحدين بنو الأحمر الذين أسقطوا حكم الموحدين وحكموها وجعلوها عاصمة "مملكة غرناطة" في عهد محمد الأول بن يوسف بن نصر الأحمر، الذي يدأ بناء قصر الحمراء الشهير، الذي يقف أمامه كل مهندس وفنان وشاعر وأديب ومفكر فيعجب من عظمة هذا الصرح الفاتن في كل جوانبه وزواياه إلى يومنا هذا.

وفي الطرف الآخر من الحياة الرغيدة في الأندلس وكل هذه الفنون والعمران البديع والموشحات والأندلسية والمعازف والغناء، كان الأمر يسوء أكثر فأكثر مع تتابع الأيام من الفتن الانغماس في الرغبات، حتى ضعف حال الدولة والمسلمون هناك ، وهنا قد بدأ السقوط يأتي.

سقطت غرناطة في عام 1492م، وهي آخر ولاية في بلاد الأندلس كانت في يد المسلمين، سُلمت تسليماً من الملك محمد ال12 الملقب باسم أبي عبد الله الصغير، سلمها للملوك الكاثوليك بعد معارك دامت بينهم من عام 1482م إلى 1492م.

وبعد السقوط بسبعة أعوام، في عام  1499م، وفي عهد الملكة "قشتالة إيزابيل" الأولى، شُنت حملة شرسة لتنصير البلاد، وحولت المساجد إلى كنائس وغيرت من شكل المدينة وأزالت معالمها الإسلامية إلى حدٍ كبير.

وبهذا ينتهي عصر عظيم ومبكي من التاريخ.

ذهبت غرناطة، ومن بعدها توالت السقطات كقطع دومينو متراصة.


Next Post Previous Post
No Comment
Add Comment
comment url