المُتنبي على عرش الشعراء

 


إذا اعتـاد الفتى خوض المنايا          فأيسر مـا يمرّ به  الوحـول

 

يهون علينا أن تصاب جسومنا          وتسلم أعـراض لنا وعقـول

 

ما أنا بقدرة هذا الرجل حين يقسو على نفسه كما تُروض الخيل للمعارك الكاسرة، المُتنبي وهو أبو الطيب المتنبي الشاعر الذي أوغل في كافة العصور كما لو أنه لم يولد في عصره فقط وإنما يولد في كل بيتٍ نطق به أو تم تدوينه.

أبياته لها القدرة على شد العزائم والصبر ومحاسبة الذات والإلتزام والإنظباط والثبات على الموقف والمبدأ، لها هذا السحر والوقع على الأنفس.

العالم لن يشهد مثل هذا الرجل بما فيه من تنوع، وأقصد بالتنوع هنا هو التنوع في المواضيع التي يطرحها من خلال قصائده، حيث أنه لم يتكفي بأن يغازل إمرأة أو يصف خيلاً أو سيفاً، أو حتى يستعلي ويصف ذكاءه.

بحيث نرى أن الشعراء كانوا يشتهرون بإتجاه واحد أو إثنين من إتجاهات الشعر، أمثال امرؤ القيس و الأعشى وعمر بن أبي ربيعة، فإن المتنبي شاعر متفرد في تنوعه وتميزه عن غيره من الشعراء سواء في زمانه أو الشعراء الأقدم منه.

وبلغ في المتنبي أن يتم البحث عنه وذكره في الأوساط الأجنبية حيث يدرسون شعره ويضعونه موضع أهم شعراء العرب، حيث ذكر بلاشير في كتابه عن المتنبي بأن شعره ملحمي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

هذه العقلية الرافضة للإنصياع والمنطق الذي يجره إلى التمسك بكل ما يقول ويرغب، لتبدو أكثر ثورةً وتمرداً على الأوضاع مع نظيرتها في عصرنا اليوم من الثورات.

لم يترك موضعاً إلا وكتب فيه ودلالة ذلك لازلنا نستشهد بأبيات له في مواقف نعيشها اليوم، وديوان المتنبي يحمل 326 قصيدة تحمل في طياتها الكثير من فنون الشعر وأقسامه، حيث أنه قد كتب في شعر الحماسة والمديح والهجاء، الغزل، الحكمة...إلخ.

وكان يصف الأشياء وصفاً دقيقاً بليغاً، ومن أشهر ما وصف في أشعاره كانت تصف المعارك، مثل قوله:

مَغَاني الشِّعْبِ طِيبًا في المَغَاني              بمَنْزِلَةِ الرّبيعِ منَ الزّمَانِ

وَلَكِنّ الفَتى العَرَبيّ فِيهَا                      غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ

مَلاعِبُ جِنّةٍ لَوْ سَارَ فِيهَا                      سُلَيْمَانٌ لَسَارَ بتَرْجُمَانِ

طَبَتْ فُرْسَانَنَا وَالخَيلَ حتى         خَشِيتُ وَإنْ كَرُمنَ من الحِرَانِ

غَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغْصَانُ فيهَا                  على أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِ

ومثال في بيت عن غزل المتنبي:

لعينيكِ ما يلقى الفؤادُ وما لقى              وللحبِ ما لم يبقى مني وما بقى.

وعندما مدح في قصائده سيف الدولة الحمداني حيث المديح في سيف الدولة قد بلغ ثلث أشعاره أو أكثر، وهذا أبيات في مدح سيف الدولة، فقال فيه:

وقفت وما في الموت شكٌّ لواقف            كأنك في جفن الرَّدى وهو نائم

تمر بك الأبطال كَلْمَى هزيمـةً               ووجهك وضاحٌ، وثغرُكَ باسم

تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى            إلى قول قومٍ أنت بالغيب عالم

وعاتب المتنبي سيف الدولة بعد الموقف الذي حصل بين المتنبي و ابن خالويه حين ضربه أما سيف الدولة ولم يفعل له شيء.

وقال فيه من العتاب أبياتاً منها قوله:

واحـرَّ قلبـاهُ مِمَّـنْ قلبُـهُ شَبـِــمُ       ومـنْ بجسمـي وحالـي عنـده سَقـَمُ

ما لي أكتمُ حبـاً قـد بـرى جسـدي      وتدعـي حُـبَّ سيـفِ الدولـة الأمـمُ

إن كـان يجمعنـا حــبٌ لغرتــه           فليـتَ أنـَّا بقـدرِ الحـب نقتسـِـمُ

 

وكانت حياته في القرن الرابع الهجري حيث ولد عام 303 هجري في الكوفة وكان أعظم شاعر بين العرب، وإنه قد تفرد دوناً عن غيره عند سيف الدولة فكان شاعر المفضل والمقرب إليه لأنه يوكل إليه أن يوثق إنتصاراته عبر قصائد يكتبها المتنبي له في مدحه لقوته وشجاعته.

وإنه لرجل تجري على لسانه الحكمة والقدرة على التصور والتخيل العميق لوصف حالة أو حدث أو فكرة تجول في خاطره، وبهذا يتفرد في البلاغة والمفردات والوصف المتميز عن غيره من شعراء عصره.

كان المتنبي يمدح فقط الأمراء والملوك، وهذا يفضي لنا عن طريقة المتنبي في سياسة الأمور، حيث أن المتنبي كان له غاية من مدحه للملوك والأمراء، وهي أنه كان يرغب في أن يكون والياً على إحدى المدن، فقد كان يرى في نفسه الكفاءة والخبرة والشجاعة أن يكون حاكماً حكيماً، يأمر ويؤمر.

لكن كانت كل محاولات المتنبي في أن يصبح والياً باءت بالفشل، وهذا ما أوصله لحالة البؤس الشديدة من جميع الملوك والأمراء في آواخر أيامه، حتى وأنه قد خرج من مصر هارباً من كافور، بعد أن هجاه بالشعر وهرب إلى الكوفة.

عاش المتنبي أيامه الأخيرة مرتحلاً من بلدٍ لآخر، وآخرها كانت عندما عاد من بلاد فارس إلى الكوفة، ولكن هنا كان قد أتى أجل المتنبي، بعد أن ظهر له في طريقه فاتك الأسدي، الذي يكون خال ضبة بن يزيد الذي هجاه المتنبي ووصفه بأقزر الأوصاف، فنشبت بينهم معركة غير عادلة وفيها قُتل ابن فاتك " محسد " وكان المتنبي يهم بالهروب، حتى أوقفه غلامه وقال له ألست من قال " الخيل والليل والبيداء تعرفني "، فرد عليه المتنبي: " قتلتني قتلك الله " وعاد يقاتل حتى قُتل في منطقة يقال لها الصافية شرقي نهر دجلة.


Next Post Previous Post
No Comment
Add Comment
comment url